سورة يوسف - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)}
فيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن يوسف عليه السلام لما التمس من الملك أن يجعله على خزائن الأرض لم يحك الله عن الملك أنه قال: قد فعلت، بل الله سبحانه قال: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الارض} فهاهنا المفسرون قالوا في الكلام محذوف وتقديره: قال الملك قد فعلت، إلا أن تمكين الله له في الأرض يدل على أن الملك الملك قد أجابه إلى ما سأل.
وأقول: ما قالوه حسن، إلا أن هاهنا ما هو أحسن منه وهو أن إجابة الملك له سبب في عالم الظاهر وأما المؤثر الحقيقي: فليس إلا أنه تعالى مكنه في الأرض، وذلك لأن ذلك الملك كان متمكناً من القبول ومن الرد، فنسبة قدرته إلى القبول وإلى الرد على التساوي، وما دام يبقى هذ التساوي امتنع حصول القبول، فلابد وأن يترجح القبول على الرد في خاطر ذلك الملك، وذلك الترجح لا يكون إلا بمرجح يخلقه الله تعالى، إذا خلق الله تعالى ذلك المرجح حصل القبول لا محالة، فالتمكن ليوسف في الأرض ليس إلا من خلق الله تعالى في قلب ذلك الملك بمجموع القدرة والداعية الجازمة اللتين عند حصولهما يجب الأثر، فلهذا السبب ترك الله تعالى ذكر إجابة الملك واقتصر على ذكر التمكين الإلهي، لأن المؤثر الحقيقي ليس إلا هو.
المسألة الثانية: روي أن الملك توجه وأخرج خاتم الملك وجعله في أصبعه وقلد بسيفه ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت، فقال يوسف عليه السلام: أما السرير فأشد به ملكك وأما الخاتم فأدبر به أمرك، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي، وجلس على السرير ودانت له القوم، وعزل الملك قطفير زوج المرأة المعلومة ومات بعد ذلك وزوجه الملك امرأته، فلما دخل عليها قال أليس هذا خيراً مما طلبت، فوجدها عذراء فولدت له ولدين أفرايم وميشا وأقام العدل بمصر وأحبته الرجال والنساء، وأسلم على يده الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدراهم والدنانير في السنة الأولى ثم بالحلي والجواهر في السنة الثانية ثم بالدواب ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم حتى استرقهم سنين فقالوا والله ما رأينا ملكاً أعظم شأناً من هذا الملك حتى صار كل الخلق عبيداً له فلما سمع ذلك قال إني أشهد الله أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم، وكان لا يبيع لأحد ممن يطلب الطعام أكثر من حمل البعير لئلا يضيق الطعام على الباقين هكذا رواه صاحب الكشاف والله أعلم.
المسألة الثالثة: قوله: {وكذلك} الكاف منصوبة بالتمكين، وذلك إشارة إلى ما تقدم يعني به ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبنا إياه من قلب الملك وإنجائنا إياه من غم الحبس، وقوله: {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض} أي أقدرناه على ما يريد برفع الموانع وقوله: {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء} يتبوأ في موضع نصب على الحال تقديره مكناه متبوأ وقرأ ابن كثير: {نَشَاء} بالنون مضافاً إلى الله تعالى والباقون بالياء مضافاً إلى يوسف.
واعلم أن قوله: {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء} يدل على أنه صار في الملك بحيث لا يدافعه أحد، ولا ينازعه منازع بل صار مستقلاً بكل ما شاء وأراد ثم بين تعالى ما يؤكد أن ذلك من قبله فقال: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء}.
واعلم أنه تعالى ذكر أولاً أن ذلك التمكين كان من الله لا من أحد سواه وهو قوله: {كذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الارض} ثم أكد ذلك ثانياً بقوله: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء} وفيه فائدتان:
الفائدة الأولى: أن هذا يدل على أن الكل من الله تعالى.
قال القاضي: تلك المملكة لما لم تتم إلا بالأمور فعلها الله تعالى صارت كأنها حصلت من قبله تعالى.
وجوابه: أنا ندعي أن نفس تلك المملكة إنما حصلت من قبل الله تعالى، لأن لفظ القرآن يدل على قولنا، والبرهان القاطع الذي ذكرناه يقوي قولنا، فصرف هذا اللفظ إلى المجاز لا سبيل إليه.
الفائدة الثانية: أنه أتاه ذلك بمحض المشيئة الإلهية والقدرة النافذة.
قال القاضي: هذه الآية تدل على أنه تعالى يجري أمر نعمه على ما يقتضيه الصلاح.
قلنا: الآية تدل على أن الأمور معلقة بالمشيئة الإلهية والقدرة المحضة فأمارعاية قيد الصلاح، فأمر اعتبرته أنت من نفسك مع أن اللفظ لا يدل عليه.
ثم قال تعالى: {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} وذلك لأن إضاعة الأجر إما أن يكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حق الله تعالى، فكانت الإضاعة ممتنعة.
واعلم أن هذا شهادة من الله تعالى على أن يوسف عليه السلام كان من المحسنين ولو صدق القول بأنه جلس بين شعبها الأربع لامتنع أن يقال: إنه كان من المحسنين، فهاهنا لزم إما تكذيب الله في حكمه على يوسف بأنه كان من المحسنين وهو عين الكفر أو لزم تكذيب الحشوي فيما رواه وهو عين الإيمان والحق.
ثم قال تعالى: {وَلاَجْرُ الأخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} وفيه مسائل:
المسألة الأول: في تفسير هذه الآية قولان:
القول الأول: المراد منه أن يوسف عليه السلام وإن كان قد وصل إلى المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الدنيا إلا أن الثواب الذي أعده الله له في الآخرة خير وأفضل وأكمل وجهات الترجيح قد ذكرناها في هذا الكتاب مراراً وأطواراً، وحاصل تلك الوجوه أن الخير المطلق هو الذي يكون نفعاً خالصاً دائماً مقروناً بالتعظيم، وكل هذه القيود الأربعة حاصلة في خيرات الآخرة ومفقودة في خيرات الدنيا.
القول الثاني: أن لفظ الخير قد يستعمل لكون أحد الخيرين أفضل من الآخر كما يقال: الجلاب خير من الماء وقد يستعمل لبيان كونه في نفسه خيراً من غير أن يكون المراد منه بيان التفضيل كما يقال: الثريد خير من الله يعني الثريد خير من الخيرات حصل بإحسان من الله.
إذا ثبت هذا فقوله: {وَلاَجْرُ الاخرة خَيْرٌ} إن حملناه على الوجه الأول لزم أن تكون ملاذ الدنيا موصوفة بالخيرية أيضاً، وأما إن حملناه على الوجه الثاني لزم أن لا يقال إن منافع الدنيا أيضاً خيرات بل لعله يفيد أن خير الآخرة هو الخير، وأما ما سواه فعبث.
المسألة الثانية: لا شك أن المراد من قوله: {وَلاَجْرُ الأخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} شرح حال يوسف عليه السلام فوجب أن يصدق في حقه أنه من الذين آمنوا وكانوا يتقون، وهذا تنصيص من الله عز وجل. على أنه كان في الزمان السابق من المتقين، وليس هاهنا زمان سابق ليوسف عليه السلام يحتاج إلى بيان أنه كان فيه من المتقين إلا ذلك الوقت الذي قال الله فيه: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24] فكان هذا شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتقين، وأيضاً قوله: {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان من المحسنين، وقوله: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} شهادة من الله تعالى على أنه من المخلصين فثبت أن الله تعالى شهد بأن يوسف عليه السلام كان من المتقين ومن المحسنين ومن المخلصين، والجاهل الحشوي يقول: إنه كان من الأخسرين المذنبين، ولا شك أن من لم يقل بقول الله سبحانه وتعالى مع هذه التأكيدات كان من الأخسرين.
المسألة الثالثة: قال القاضي: قوله تعالى: {وَلاَجْرُ الاخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} يدل على بطلان قول المرجئة: الذين يزعمون أن الثواب يحصل في الآخرة لمن لم يتق الكبائر.
قلنا: هذا ضعيف، لأنا إن حملنا لفظ خير على أفعل التفضيل لزم أن يكون الثواب الحاصل للمتقين أفضل ولا يلزم أن لا يحصل لغيرهم أصلاً، وإن حملناه على أصل معنى الخيرية، فهذا يدل على حصول هذا الخير للمتقين ولا يدل على أن غيرهم لا يحصل لهم هذا الخير.


{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)}
اعلم أنه لما عم القحط في البلاد، ووصل أيضاً إلى البلدة التي كان يسكنها يعقوب عليه السلام وصعب الزمان عليهم فقال لبنيه إن بمصر رجلاً صالحاً يمير الناس فاذهبوا إليه بدراهمكم وخذوا الطعام فخرجوا إليه وهم عشرة ودخلوا على يوسف عليه السلام وصارت هذه الواقعة كالسبب في اجتماع يوسف عليه السلام مع إخوته وظهور صدق ما أخبر الله تعالى عنه في قوله ليوسف عليه السلام حال ما ألقوه في الجب {لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15] وأخبر تعالى أن يوسف عرفهم وهم ما عرفوه ألبتة، أما أنه عرفهم فلأنه تعالى كان قد أخبره في قوله: {لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ} بأنهم يصلون إليه ويدخلون عليه، وأيضاً الرؤيا التي رآها كانت دليلاً على أنهم يصلون إليه، فلهذا السبب كان يوسف عليه السلام مترصداً لذلك الأمر، وكان كل من وصل إلى بابه من البلاد البعيدة يتفحص عنهم ويتعرف أحوالهم ليعرف أن هؤلاء الواصلين هل هم إخوته أم لا فلما وصل إخوة يوسف إلى باب داره تفحص عن أحوالهم تفحصاً ظهر له أنهم إخوته، وأما أنهم ما عرفوه فلوجوه:
الأول: أنه عليه السلام أمر حجابه بأن يوقفوهم من البعد وما كان يتكلم معهم إلا بالواسطة ومتى كان الأمر كذلك لا جرم أنهم لم يعرفوه لا سيما مهابة الملك وشدة الحاجة يوجبان كثرة الخوف، وكل ذلك مما يمنع من التأمل التام الذي عنده يحصل العرفان.
والثاني: هو أنهم حين ألقوه في الجب كان صغيراً. ثم إنهم رأوه بعد وفور اللحية، وتغير الزي والهيئة فإنهم رأوه جالساً على سريره، وعليه ثياب الحرير، وفي عنقه طوق من ذهب، وعلى رأسه تاج من ذهب، والقوم أيضاً نسوا واقعة يوسف عليه السلام لطول المدة. فيقال: إن من وقت ما ألقوه في الجب إلى هذا الوقت كان قد مضى أربعون سنة، وكل واحد من هذه الأسباب يمنع من حصول المعرفة، لا سيما عند اجتماعها، والثالث: أن حصول العرفان والتذكير بخلق الله تعالى، فلعله تعالى ما خلق ذلك العرفان والتذكير في قلوبهم تحقيقاً لما أخبره عنه بقوله: {لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} وكان ذلك من معجزات يوسف عليه السلام.
ثم قال تعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} قال الليث: جهزت القوم تجهيزاً إذا تكلفت لهم جهازهم للسفر، وكذلك جهاز العروس والميت وهو ما يحتاج إليه في وجهه. قال: وسمعت أهل البصرة يقولون: الجهاز بالكسر.
قال الأزهري: القراء كلهم على فتح الجيم، والكسر لغة ليست بجيدة، قال المفسرون: حمل لكل رجل منهم بعيراً وأكرمهم أيضاً بالنزول وأعطاهم ما احتاجوا إليه في السفر، فذلك قوله: {جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} ثم بين تعالى أنه لما جهزهم بجهازهم قال: {ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ}.
واعلم أنه لابد من كلام سابق حتى يصير ذلك الكلام سبباً لسؤال يوسف عن حال أخيهم، وذكروا فيه وجوهاً:
الوجه الأول: وهو أحسنها إن عادة يوسف عليه السلام مع الكل أن يعطيه حمل بعير لا أزيد عليه ولا أنقص، وإخوة يوسف الذين ذهبوا إليه كانوا عشرة، فأعطاهم عشرة أحمال، فقالوا: إن لنا أباً شيخاً كبيراً وأخاً آخر بقي معه، وذكروا أن أباهم لأجل سنه وشدة حزنه لم يحضر، وأن أخاهم بقي في خدمة أبيه ولا بد لهما أيضاً من شيء من الطعام فجهز لهما أيضاً بعيرين آخرين من الطعام فلما ذكروا ذلك قال يوسف فهذا يدل على أن أحب أبيكم له أزيد من حبه لكم، وهذا شيء عجيب لأنكم مع جمالكم وعقلكم وأدبكم إذا كانت محبة أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبته لكم دل هذا على أن ذلك أعجوبة في العقل، وفي الفضل والأدب فجيئوني به حتى أراه فهذا السبب محتمل مناسب.
والوجه الثاني: أنهم لما دخلوا عليه، عليه السلام وأعطاهم الطعام قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن قوم رعاة من أهل الشام أصابنا الجهد فجئنا نمتار فقال: لعلكم جئتم عيوناً فقالوا معاذ الله نحن إخوة بنو أب واحد شيخ صديق نبي اسمه يعقوب قال: كم أنتم قالوا: كنا اثني عشر فهلك منا واحد وبقي واحد مع الأب يتسلى به عن ذلك الذي هلك، ونحن عشرة وقد جئناك قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخ لكم من أبيكم ليبلغ إلي رسالة أبيكم فعند هذا أقرعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون، وكان أحسنهم رأيا في يوسف فخلفوه عنده.
والوجه الثالث: لعلهم لما ذكروا أباهم قال يوسف: فلم تركتموه وحيداً فريداً؟ قالوا: ما تركناه وحيداً، بل بقي عنده واحد. فقال لهم: لم استخلصه لنفسه ولم خصه بهذا المعنى لأجل نقص في جسده؟ فقالوا: لا. بل لأجل أنه يحبه أكثر من محبته لسائر الأولاد فعند هذا قال يوسف لما ذكرتم أن أباكم رجل عالم حكيم بعيد عن المجازفة، ثم إنه خصه بمزيد المحبة وجب أن يكون زائداً عليكم في الفضل، وصفات الكمال مع أني أراكم فضلاء علماء حكماء فاشتاقت نفسي إلى رؤية ذلك الأخ فائتوني به، والسبب الثاني: ذكره المفسرون، والأول والثالث محتمل والله أعلم.
ثم إنه تعالى حكى عنه أنه قال: {أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الكيل} أي أتمه ولا أبخسه، وأزيدكم حمل بعير آخر لأجل أخيكم، وأنا خير المنزلين، أي خير المضيفين لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم.
وأقول: هذا الكلام يضعف الوجه الثاني وهو الذي نقلناه عن المفسرين، لأن مدار ذلك الوجه على أنه اتهمهم ونسبهم إلى أنهم جواسيس، ولو شافههم بذلك الكلام فلا يليق به أن يقوم لهم: {أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الكيل وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين} وأيضاً يبعد من يوسف عليه السلام مع كونه صديقاً أن يقول لهم أنتم جواسيس وعيون، مع أنه يعرف براءتهم عن هذه التهمة، لأن البهتان لا يليق بحال الصديق.
ثم قال: {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ}.
واعلم أنه عليه السلام لما طلب منهم إحضار ذلك الأخ جمع بين الترغيب والترهيب.
أما الترغيب: فهو قوله: {أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الكيل وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين} وأما الترهيب: فهو قوله: {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ} وذلك لأنهم كانوا في نهاية الحاجة إلى تحصيل الطعام، وما كان يمكنهم تحصيله إلا من عنده، فإذا منعهم من الحضور عنده كان ذلك نهاية الترهيب والتخويف، ثم إنهم لما سمعوا هذا الكلام من يوسف قالوا: {سنراود عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لفاعلون} أي سنجتهد ونحتال على أن ننزعه من يده، وإنا لفاعلون هذه المراودة، والغرض من التكرير التأكيد، ويحتمل أن يكون {وَإِنَّا لفاعلون} أن نجيئك به، ويحتمل {وَإِنَّا لفاعلون} كل ما في وسعنا من هذا الباب.


{وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)}
في الآية مسائل:
المسائل الأولى: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم لفتيانه بالألف والنون والباقون {لفتيته} بالتاء من غير ألف، وهما لغتان كالصبيان والصبية، والإخوان والإخوة قال أبو علي الفارسي الفتية جمع فتى في العدد القليل والفتيان للكثير، فوجه البناء الذي للعدد القليل أن الذين يحيطون بما يجعلون بضاعتهم فيه من رحالهم يكونون قليلين لأن هذا من باب الأسرار فوجب صونه إلا عن العدد القليل ووجه الجمع الكثير أنه قال: {لِفِتْيَانِهِ اجعلوا بضاعتهم فِي رِحَالِهِمْ} والرحال تفيد العدد الكثير فوجب أن يكون الذين يباشرون ذلك العمل كثيرين.
المسألة الثانية: اتفق الأكثرون على أن إخوة يوسف ما كانوا عالمين بجعل البضاعة في رحالهم ومنهم من قال إنهم كانوا عارفين به، وهو ضعيف لأن قوله: {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا} يبطل ذلك ثم اختلفوا في السبب الذي لأجله أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم على وجوه:
الأول: أنهم متى فتحوا المتاع فوجدوا بضاعتهم فيه، علموا أن ذلك كان كرماً من يوسف وسخاء محضاً فيبعثهم ذلك على العود إليه والحرص على معاملته.
الثاني: خاف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى الثالث: أراد به التوسعة على أبيه لأن الزمان كان زمان القحط.
الرابع: رأى أن أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته مع شدة حاجتهم إلى الطعام لؤم.
الخامس: قال الفراء: إنهم متى شاهدوا بضاعتهم في رحالهم وقع في قلوبهم أنهم وضعوا تلك البضاعة في رحالهم على سبيل السهو وهم أنبياء وأولاد الأنبياء فرجعوا ليعرفوا السبب فيه، أو رجعوا ليردوا المال إلى مالكه.
السادس: أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم به عيب ولا منة.
السابع: مقصوده أن يعرفوا أنه لا يطلب ذلك الأخ لأجل الإيذاء والظلم ولا لطلب زيادة في الثمن.
الثامن: أراد أن يعرف أبوه أنه أكرمهم وطلبه له لمزيد الإكرام فلا يثقل على أبيه إرسال أخيه.
التاسع: أراد أن يكون ذلك المال معونة لهم على شدة الزمان، وكان يخاف اللصوص من قطع الطريق، فوضع تلك الدراهم في رحالهم حتى تبقى مخفية إلى أن يصلوا إلى أبيهم.
العاشر: أراد أن يقابل مبالغتهم في الإساءة بمبالغته في الإحسان إليهم.
ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم لما رجعوا إلى أبيهم قالوا: {قَالُواْ يأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الكيل} وفيه قولان: الأول: أنهم لما طلبوا الطعام لأبيهم وللأخ الباقي عنده منعوا منه، فقولهم: {منع منا الكيل} إشارة إليه.
والثاني: أنه منع الكيل في المستقبل وهو إشارة إلى قول يوسف: {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى} [يوسف: 60] والدليل على أن المراد ذلك قولهم: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} قرأ حمزة والكسائي: {يكتل} بالياء، والباقون بالنون، والقراءة الأولى تقوى القول الأول، والقراءة الثانية تقوي القول الثاني.
ثم قالوا: {وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لحافظون} ضمنوا كونهم حافظين له، فلما قالوا ذلك قال يعقوب عليه السلام: {هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ} والمعنى أنكم ذكرتم قبل هذا الكلام في يوسف وضمنتم لي حفظه حيث قلتم: {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [يوسف: 12] ثم هاهنا ذكرتم هذا اللفظ بعينه فهل يكون هاهنا أماني إلا ما كان هناك يعني لما لم يحصل الأمان هناك فكذلك لا يحصل هاهنا.
ثم قال: {فالله خَيْرٌ حافظا وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين} قرأ حمزة والكسائي {حافظا} بالألف على التمييز والتفسير على تقدير هو خير لكم حافظاً كقولهم: هو خيرهم رجلاً ولله دره فارساً، وقيل: على الحال والباقون: {حافظا} بغير ألف على المصدر يعني خيركم حفظاً يعني حفظ الله لبنيامين خير من حفظكم، وقرأ الأعمش {فالله خَيْرٌ حافظا} وقرأ أبو هريرة رضي الله عنه {خَيْرٌ حافظا وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين} وقيل: معناه وثقت بكم في حفظ يوسف عليه السلام فكان ما كان فالآن أتوكل على الله في حفظ بنيامين.
فإن قيل: لم بعثه معهم وقد شاهد ما شاهد.
قلنا: لوجوه:
أحدها: أنهم كبروا ومالوا إلى الخير والصلاح.
وثانيها: أنه كان يشاهد أنه ليس بينهم وبين بنيامين من الحسد والحقد مثل ما كان بينهم وبين يوسف عليه السلام.
وثالثها: أن ضرورة القحط أحوجته إلى ذلك.
ورابعها: لعله تعالى أوحى إليه وضمن حفظه وإيصاله إليه.
فإن قيل: هل يدل قوله: {فالله خَيْرٌ حافظا} على أنه أذن في ذهاب ابنه بنيامين في ذلك الوقت.
قلنا: الأكثرون قالوا: يدل عليه.
وقال آخرون: لا يدل عليه، وفيه وجهان:
الأول: التقدير أنه لو أذن في خروجه معهم لكان في حفظ الله لا في حفظهم.
الثاني: أنه لما ذكر يوسف قال: {فالله خَيْرٌ حافظا} أي ليوسف لأنه كان يعلم أنه حي.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14